سوريا الجديدة: لحظة الانتصار ومسؤولية البناء

د. تمام كيلاني
سوريا الجديدة: لحظة الانتصار ومسؤولية البناء
د. تمام كيلاني*
بعد أكثر من خمسة عقود من القمع والاستبداد، وأكثر من أربعة عشر عامًا من الثورة والنضال، يخطو السوريون اليوم أولى خطواتهم نحو فجر جديد، عنوانه الحرية والكرامة والدولة الوطنية. لقد أسقط الشعب السوري، بوعيه وتضحياته، النظام البعثي الذي جثا على صدر الوطن، وأعاد تشكيل الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد من جذورها.
لسنوات طويلة، شكل حزب البعث ومنظومة حكم عائلة الأسد سُداً منيعًا أمام تطلعات السوريين. حولوا البلاد إلى سجن كبير، واحتكروا السلطة والثروة، وأشاعوا الخوف والقهر في تفاصيل الحياة اليومية. واليوم، ومع سقوط هذه المنظومة، نُوجه الشكر لله أولًا، ثم لكل من قاوم وصمد وساند في هذه المسيرة، حتى لحظة الانعتاق.
الثورة السورية لم تكن لحظة غضب، بل مشروع تحرري طويل الأمد، شارك فيه جميع مكونات الشعب السوري. امتدت سنوات النضال لما يقارب 14 عامًا، وكانت إدلب وسواها من المناطق المحررة حاضنات حقيقية للثوار، ومنصات للإعداد والتخطيط والتضحية.
لقد تحقق اليوم واحد من أهم أهداف الثورة: إسقاط حكم الاستبداد. ولكن الثورة لا تنتهي عند سقوط الطغاة، بل تبدأ حين نبني الدولة التي حلم بها السوريون — دولة القانون والعدالة.
رغم الانتصار السياسي، فإن الواقع السوري ما زال مثقلًا بالخراب والمآسي. بلد مدمّر، بنية تحتية منهارة، شعب مشرّد نصفه خارج الحدود، وأكثر من مليونَي شهيد وجريح ومُعاق ومعتقل. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل جراح مفتوحة في جسد الوطن. ومن الضروري أن تبقى هذه الذاكرة حية، لا للثأر، بل للعدالة والإنصاف، ولضمان عدم تكرار المأساة.
لقد بات واضحًا أن المرحلة المقبلة تتطلب جهدًا وطنيًا شاملًا لبناء سوريا الجديدة. سوريا التي لا تُقصي أحدًا، ولا تُدار بعقلية الانتقام أو الهيمنة. نحتاج إلى دولة تشاركيه تعددية، تُمثل جميع مكونات المجتمع السوري ، وتعيد الاعتبار للمواطنة كأساس للحقوق والواجبات.
ومن حسن الطالع، أن هناك إرادة دولية ومحلية داعمة لهذا التحول، تتجسد في اتفاقات مبدئية لدعم الحكومة الانتقالية الجديدة، ومبادرات لإعادة الإعمار، وإعادة اللاجئين، وتهيئة بيئة دستورية وقانونية نزيهة.
في ظل هذا المخاض، علينا أن نكون على وعيٍ تام بالمخاطر المحيطة. مشروع تقسيم سوريا ليس مجرد فزاعة، بل تهديد حقيقي. والمستفيد الوحيد من تفتيت البلاد هو الاحتلال الإسرائيلي، الذي ما فتئ يطمح إلى محيط عربي ضعيف ومجزأ، لتنفيذ مخططه الصهيوني الممتد من “الفرات إلى النيل”.
سوريا كانت وستبقى واحدة، أرضًا وشعبًا. وكل محاولة لبث الفتنة أو التحريض الطائفي أو العرقي هي خيانة للتضحيات، وخدمة لأعداء الوطن.
دعوة للوحدة والمصالحة الوطنية
إن اللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم تتطلب من الجميع الترفع عن الأحقاد، وطيّ صفحة الكراهية، والبدء بحوار وطني شامل، يقوم على قبول الآخر، والتطلع إلى المستقبل لا الماضي. يجب أن نضع نصب أعيننا بناء دولة لكل السوريين، تضمن الحريات، وتضع السلاح تحت سلطة الدولة وحدها.
الخلاصة: من الثورة إلى الدولة
المرحلة المقبلة ستكون الأصعب، لكنها أيضًا الأكثر أملًا. نحتاج إلى وعي وطني جامع، وإلى نخبة سياسية نزيهة، وإلى تضافر جهود الداخل والخارج، حتى نعيد بناء سوريا التي نحلم بها: دولة حرّة، مدنية، موحدة، تعدديه ، عادلة، قوية، ومحترمة بين الأمم.
رحم الله الشهداء، وشفى الجرحى، وحرر المعتقلين، وأعاد اللاجئين إلى ديارهم مكرّمين، ووفقنا جميعًا في حمل هذه الأمانة الثقيلة.
*رئيس اتحاد الاطباء والصيادلة العرب في النمسا.
كلمات البحث
إقرأ أيضًا
اللقاءات الدورية تعود إلى مقر الاطباء العرب بالنمسا !
الأحزاب القومية بين الشعارات والممارسات: قراءة تحليلية
فن التصفيق المستدام: مهارات الحفاظ على راحة اليد دون التوقف عن التصفيق لساعات
الثورة السورية.. انتصار الإنسان لا مكاسب الأشخاص
أزمة الدولة الوطنية في سورية بين الأكثريات والأقليات
“لينفق ذو سعة من سعته”.. مشروع حياة لإعادة إعمار سورية
الاكثر شهرة
أسئلة مباحة في زمن صعب!!
أسئلة مباحة في زمن صعب!! رامة ياسر حسين* هل حصلنا على الحرّيّة حقًّا أم زادت المسافات...
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق
المؤتمر الطبي الأوربي العربي الأول بدمشق مؤتمر الياسمين فن ومدن* تحت عنوان (الابتكارات الطب...
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار
عندما يغلق المراهق بابه كيف نفتح باب الحوار ملاك صالح صالح* في الكثير من البيوت العربية،...
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!!
الطفولة المعنّفة.. كيف تنجو من ذاكرة الجسد!! ملاك صالح صالح* قبل أن تبدأ رحلتنا في بحر ال...